في خطابين متقاربين وبمناسبتين مختلفتين وقف حسن نصر الله أمام جماهيره ليكشف عن هويته وجنديته للمشروع الذي يقوده «سماحة السيد القائد» الولي الفقيه!
في الخطاب الأول كان متأثرا للغاية ومتألما على «رفاق السلاح» آصف شوكت ومجموعته من أركان النظام الأسدي، يذكرهم ويضفي عليهم ما جادت به قريحته من صفات «الأبطال»، «المجاهدين»، «الشهداء» ولولا أنه كان يذكرهم بأسمائهم لخلت أنه يتحدث عن شهداء الطف!
نسي حسن نصر الله أنه «رجل دين» وأن الدين أي دين لا يمكن أن يقر بقتل الأطفال وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها بهذه البشاعة الممنهجة التي صممها رفاق السلاح هؤلاء.
رجل الدين هذا لم يذرف دمعة واحدة على آلاف الضحايا من الأبرياء السوريين، وأضعافهم من المهجرين والهائمين على وجوههم في كل الاتجاهات وعلى كل المعابر، كما أنه تجاهل حق الشعب السوري وثورته المتصاعدة والتي امتدت في كل التراب السوري، فهم لا يزالون في نظره «مندسين» و «مأجورين»، وللعالم هنا أن يتخيل أي عقيدة تسكن في رؤوس هؤلاء، وأي شريعة يمكن أن يفرضوها على مجتمعاتنا في حال نجاح مشروعهم والذي عنونه الخميني بشعار «تصدير الثورة».
في الخطاب الثاني ذهب حسن نصر الله ليؤكد جنديته لهذا المشروع ببعد تاريخي خطير؛ حيث أخذ يشيد بالإيرانيين وصمودهم وشجاعتهم إبان الثماني سنوات التي كانوا يقاتلون بها جيرانهم العراقيين! وقد بالغ مبالغة لا تناسب رجل الدين ولا رجل السياسة؛ حيث ذكر أن الإيرانيين كانوا يعيشون حصارا دوليا خانقا حيث منعوا من استيراد كل ما يحتاجون إليه، وهنا نسي حسن نصر الله أو تناسى فضيحة «إيران جيت» واعتراف الرئيس الإيراني الأسبق أبوالحسن بني صدر على الهواء بأن إيران كانت تتلقى شحنات الأسلحة المتطورة من إسرائيل وبشكل مباشر، وحين سأله المذيع هل كان هذا بعلم الخميني؟ قال: نعم.
وطالما أن حسن نصر الله يريد أن يرجعنا للوراء ولحرب الثماني سنوات، أذكر بهذا الصدد وبعد انتهاء الحرب حيث تجرع الخميني «كأس السم» وبحسب وصف الخميني نفسه، ظهر صدام حسين على التلفزيون العراقي ليقول: لقد خرج اللاعبون الصغار، وسيدخل اللاعبون الكبار! في إشارة إلى الأميركان؛ حيث كان صدام حسين يعتقد أن الخميني جيء به في هذه المرحلة لإجهاض مشروع التحرر العربي، بينما كان الخميني يعتقد أن صدام حسين جيء به لإجهاض مشروع «تصدير الثورة الإسلامية» وبين النظريتين ساد هرج ومرج وجدل طويل، لكن بعد احتلال العراق وتدمير مؤسساته العسكرية الجبارة وبمساعدة الولي الفقيه وأدواته التي صنعها على عينه لهذا اليوم هل بقي من يصدق رواية الخميني؟
نعم لقد كان قرار الأميركان بتدمير العراق قد اتخذ بالفعل بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية مباشرة، وقد نُصبت الفخاخ للقيادة العراقية حتى هوى العراق بكل إمكانياته وقدراته وأصبح غنيمة سهلة يتقاسمها الولي الفقيه مع شيطانه الأكبر، فأين يقف حسن نصر الله؟
إن وقوف حسن نصر الله مع النظام الإيراني وهو يشارك الأميركان في تدمير العراق كان يكفي لكشف حقيقة الدور المناط به، لكن بعض المثقفين العرب المهووسين بالشعارات الثورية كانوا يتلمسون الأعذار والتبريرات حتى قال أحدهم: لقد أخطأ حزب الله في العراق وأصاب في لبنان! وهذا لا ينم إلا عن سطحية طائشة في تفسير الأحداث، وجهل بطبيعة الارتباطات الدينية التي تحكم العلاقة بين الولي الفقيه وجنوده ومريديه، والتي عبّر عنها حسن نصر الله أثناء استقباله لنا في صيف 2005؛ حيث قال عن علاقته بالولي الفقيه: «يقول لنا قاوموا في فلسطين ولبنان فنقاوم، ويقول لنا لا تقاوموا في العراق ولا في أفغانستان فلا نقاوم «وحين استوضحنا منه عن هذه الازدواجية قال: «إيران الدولة ترى من مصلحتها أن تستفيد من الوضع الذي صنعه الأميركان في العراق وفي أفغانستان، وإيران الثورة ترى من مصلحتها دعم المقاومة في لبنان وفلسطين»! إذاً حزب الله لا يقاوم الصهاينة دفاعا عن لبنان ولا عن فلسطين ولا عن الأمة، إنه دور محدد ومرسوم ضمن خارطة واسعة ومعقدة رسمتها أنامل الولي الفقيه في طهران، ومن هنا نفهم لماذا يصر حزب الله على احتكار حق المقاومة في لبنان، وهذه مسألة أخرى لا يعلمها الكثير من المراقبين.
في زياراتي المتكررة للبنان اكتشفت جانبا من الحقيقة، فقد رأيت في المناطق الجنوبية عددا من المقاومين السنّة وهم يؤدون دورا فاعلا هناك، ومنهم من ينتسب إلى جماعات سنّية معروفة في لبنان، ولكني حين سألتهم لماذا لا تعلنون عن أنفسكم؟ قالوا: إن حزب الله يشترط علينا أن لا نعمل إلا باسمه وتحت رايته!
نعم لقد تمكن حزب الله طيلة السنوات الماضية من خلط الأوراق، والاختباء خلف شعارات المقاومة، ساعده على هذا غفلة من الإعلام العربي، وعاطفة لاهبة لدى الكثير من المثقفين ومنهم الإسلاميون لا تسمح بالفحص العلمي والموضوعي لمثل هذه الظاهرة، لكن بعد تفجير الأربعاء في دمشق والذي أودى بـ «رفاق السلاح» فقد كشف حسن نصر الله كل ما كان مستورا في هويته وانتماءاته، ما سبب حرجا كبيرا لكل المتعاطفين معه في محيطنا العربي والإسلامي، بل ربما تآكلت شعبيته بطريقة لم تكن عنده بالحسبان.
لكن المتأمل بكل ما جرى يكتشف حقيقة أن هذه التصريحات بكل ما شكلته من مفاجأة لم تكن إلا في سياقها الطبيعي، فهناك جملة من الأحداث المتسلسلة لا يمكن فصلها عن بعضها ولا عزلها عن مواقف حزب الله الأخيرة:
زيارة أحمدي نجاد لبغداد في ظل الاحتلال الأميركي، وما قدمه المارينز من حماية له ولموكبه من مطار بغداد حتى المنطقة الخضراء ذهابا وإيابا، والمباحثات المتكررة والمعلنة بين القادة الإيرانيين والأميركان وفي بغداد أيضا، كان كل هذا بمثابة الإعلان عن الموقف الجوهري الذي يتبناه الولي الفقيه للتعامل مع «الشيطان الأكبر».
تبع هذا قيام نظام «الممانعة» في سوريا بالضغط على بعض اللاجئين العراقيين ممن كان يتقرب لهذا النظام بشعارات المقاومة والممانعة لدفعهم باتجاه «المصالحة الوطنية» وانضمامهم إلى خيمة المالكي في المنطقة الخضراء، وقد عرض التلفزيون العراقي الرسمي صورا من هؤلاء، وكلهم بلا استثناء كانوا على صلة متينة بالنظام الأسدي!
ثم الكشف عن مشاركة فاعلة لميليشيات حزب الله وميليشيات جيش المهدي مع قوات الأسد لقمع الشعب السوري الثائر، ما أفقد الحزب مصداقيته في الوسط السوري والمحيط العربي والإسلامي أيضا.
بعد هذا جاء إعلان البيت الشيعي في العراق بضرورة الإسراع بتشكيل «الجيش المليوني» لحماية العراق من الخطر القادم من سوريا في حال سقوط النظام! وقد ترجم المالكي هذه المطالب بتحشيده لأربع فرق عسكرية على الحدود العراقية السورية.
وأخيرا إعلان النظام الإيراني على لسان «جزائري» وبشكل حاسم أنه لن يسمح بتغيير النظام في سوريا! وقد توج هذا باستضافة طهران لوليد المعلم ليعلن من هناك أنه مصمم على مواجهة الشعب السوري وكان يتحدث وعلى يمينه علَم النظام السوري وعلى يساره علَم النظام الإيراني!
هذا كله يعني أن سياسة «تصدير الثورة» قد انكفأت نتيجة للربيع العربي الإسلامي المتواصل، ونتيجة لطبيعة المعركة التي تدور رحاها على أرض الشام اليوم، والتي عصفت بكل الأقنعة واللبوسات المضللة، وعليه فإن الاستراتيجية المزدوجة بين «إيران الدولة» والتي يقودها نجاد في إيران والمالكي في العراق و «إيران الثورة» التي يقودها الأسد في سوريا وحسن نصر الله في لبنان، هذه الاستراتيجية قد انكسرت لتتحول من سياسة «توزيع الأدوار» إلى سياسة «توحيد الأدوار»؛ حيث المطلوب اليوم إزالة كل أشكال الخلاف الظاهري والظهور بمظهر القوة الصلبة المتماسكة بكل أطرافها وأصابعها، على قاعدة «ليس المهم أن تكون قويا، إنما المهم أن تبدو قويا».
إذاً المطلوب من حسن نصر الله في هذه المرحلة قد اختلف تماما عن السابق، فبينما كان الحزب يمارس دور الدعاية للتشيع السياسي وتوفير الغطاء الشرعي لتصدير الثورة، أصبح دوره الآن مجرد جندي في معركة البقاء.
ربما كان الوعي المتنامي بحقيقة المشروع الإيراني وخطورته على الأمة هو الذي أسهم بكسر الاستراتيجية الأولى والتعجيل في رسم الدور الجديد لحزب الله، وهذا ما صرح به حسن نصر الله في خطابه الأخير؛ حيث كان يشكو من موجة عاتية وغير مسبوقة يقودها مثقفون وإعلاميون لمحاصرة «مشروع المقاومة» والتشكيك بقياداته ورموزه!