موضوع: جدليّة العلاقة بين الإدارة والقيادة ... مقال الجمعة أبريل 13, 2012 10:13 pm
جدليّة العلاقة بين الإدارة والقيادة
د. عماد لطفي ملحس/صيدلاني وكاتب من الأردن إذا كان مفهوم "القيادة" قد لازم البشرية منذ قديم الزمان، فإن مفهوم "الإدارة" لم ينشأ إلا ّ منذ بضع عشرات من السنين. وقد حفـّز نشوئه العلماء للبحث والتفكير الدائمين في ماهية كل من القيادة والإدارة والعلاقة بينهما في جدلية تكاد لا تنتهي. فمال البعض إلى الاعتقاد أن كلّ قائد ناجح هو بالضرورة مدير ناجح، ورأى آخرون أن المدير الناجح هو قائد ناجح لما بين المدير والقائد من صفات مشتركة ومقوّمات لا بدّ من توفـّرها لكليهما، بينما خالف البعض الرأيين السابقين قائلاً إنه ليس بالضرورة أن يكون كل قائد مدير ولا كل مدير قائدا. وقد تنوّعت التعريفات الموضوعة لكل من مفهومي الإدارة والقيادة ، فتمّ تعريف الإدارة مثلاً بأنها " النشاط المسؤول عن اتخاذ القرارات وصياغة الأهداف، وتجميع الموارد المطلوبة واستخدامها بكفاءة، لتحقيق نمو المنظمة واستقرارها، عن طريق مجموعة من الوظائف أهمها: التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة والتقويم. وتمّ التأكيد على أن الإدارة "مجموعة متكاملة من الخبرات والمهارات والقدرات أغلبها مكتسب بالتعليم والتدريب والمران العملي، وقليل منها فطري موروث. وهي إلى جانب ذلك علم وتقنية". أمّـا "القائد" فقد تم تعريفه بأنّه "شخص يستعمل نفوذه وقوته ليؤثـّر في سلوك الأفراد من حوله وفي آرائهم وتوجهاتهم، ويقودهم نحو انجاز أهداف محدّدة". مع التأكيد أن القيادة مهارة يمكن تعلـّمها شرط توافر الاستعداد الفطري والموهبة اللازمة لذلك، والتي تنشأ مع الانسان منذ ولادته. إذن هناك صفات ومهارات فطرية قد يكون منشؤها الوراثة وعوامل تكوينية أخرى، ومهارات وصفات مكتسبة عن طريق التقليد والتعلـّم والتدريب والممارسة الموجّهة. وفي الوقت الذي يعتبر تحقيق الأهداف المعيار الوحيد لإثبات نجاح المدراء، فان قدرة القادة على التأثير في الآخرين وتوجيههم نحو انجاز المهام في الوقت المناسب لتحقيق الآهداف المبتغاة، هي التي تجعل منهم قادة فعّـالين. ولقد تعددت أنواع الإدارات مع تطوّر المجتمعات البشرية، وبخاصّة بعد ظهور الصناعة والتكنولوجيا الدقيقة، وتنوعت بتنوع المهام والوظائف والأهداف.. فنشأت علوم خاصة بإدارة الوقت، وإدارة التغيير، وإدارة الأزمات، وإدارة الضغوط، وإدارة الأفراد، وغير ذلك من جزئيات العملية الإدارية الشاملة المتكاملة. كما تعدّدت أساليبها وأشكالها أيضاًَ، فنشأت "الإدارة بالأهداف MBO" التي تعتمد على إشراك جميع العاملين في تحديد الأهداف القابلة للقياس وفي وضع المعايير، والعمل فريقاً واحداً ويداً بيد من أجل تحقيق هذه الأهداف برقابة ذاتية حقيقية أساساً. وقد اعتبرت الإدارة بالأهداف لفترات طويلة أهم نظريات الإدارة على الإطلاق، وما يزال لها أنصار كثيرون في مختلف أرجاء العالم.. وهناك أيضاً نظرية "الإدارة الموقفية" التي تمكّن المدير من اتخاذ الموقف والقرار المناسبين في كل حالة على انفراد وفي الوقت المناسب، دون التقيّد برؤية مسبقة تحدّ من حريّة التصرّف، انطلاقاً من أن المشكلات الإدارية ليست معادلات رياضية ذات طرق وحلول متشابهة. أما أحدث نظريات الإدارة فيمكن أن نطلق عليه "الإدارة بالجودة"، وهي تركز أساسا على تحقيق الجودة الشاملة والتحسين المستمر في جميع جوانب العملية الإدارية، وتسعى لتحقيق أعلى درجات الجودة في المنتج والخدمات والنشاطات المختلفة المتعلقة بالفرد والجماعة. وتعرف "الجودة" أيضاً بأنها "فعل الأشياء الصحيحة بصورة صحيحة من أوّل مرّة في كلّ مرّة"، ويتمّ تشبيه ذلك بعمل النجّار أو الخياط، الذي يقوم كلّ منهما بقياس لوح الخشب أو قطعة القماش أكثر من مرّة قبل أن يشرع بعمليّة القصّ مرّة واحدة فقط، حيث لا مجال بعد ذلك لتدارك الخطأ إلاّ على حساب الجودة المطلوبة. ويعرف "التحسين المستمرّ" بأنّه" فلسفة تهدف إلى تطوير العمليات والأنشطة المتعلقة بالآلات والمواد والأفراد وطرق الإنتاج بصورة مستمرة، وهي إحدى ركائز منهجية إدارة الجودة الشاملة". وقد نشأت هذه الفلسفة في اليابان، واعتمدت طريقة Kaizen (كيزن) التي تتلخص بإجراء التحسينات المستمرة في كل المجالات وفي جميع الأوقات. ونتيجة هذه التطورات الهائلة في علم الإدارة، وجب على المدير أن يتمتع بالصفات القيادية التي تؤهّله لإنجاز العملية الإدارية بجزئياتها وأبعادها المختلفة، وهو ما يطلق عليه "القيادة الإدارية". فالمدير (أياً يكن مستواه الوظيفي) ينبغي أن تتوافر لديه القدرة على التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة والتقويم، حتى يكون مديراً ناجحا فعّالاً، وتزداد درجة نجاحه بارتفاع مستوى هذه القدرات والمهارات لديه، والتي يجب أن يعكسها على مرؤوسيه، بالقدوة تارة، وبالتعليم والتدريب المستمرّين في معظم الأحيان. وهذا هو الفرق بين المدير التقليدي الذي يطبّق التعليمات والأنظمة الإدارية ويتابع تنفيذ الخطط والبرامج ويهتم بالانضباطية في مؤسسته، وبين المدير القائد المبدع الذي يعتبر كلّ ما سبق جزءً من مهامه الأساسية، لكنه لا يتوقف عندها، بل يطبق القيادة الإدارية التي تعني تحفيز الآخرين وتطوير قدراتهم والتأثير بسلوكياتهم ومواقفهم وآرائهم..
وبعد، فهل كلّ مدير قائد؟ وهل كل قائد مدير؟ تلك هي الجدلية التي تختلف بشأنها الآراء، لكنّي أعتقد بأنه ليس كل مدير قائداً ناجحاً، ولا كلّ قائد مدير ناجح.. فكلما تعززت الصفات والقدرات القيادية لدى المدير، وكلّـما فهم القائد العملية الإدارية وتعامل معها وفق شروطها وأصولها، دون أن يلغي أدوار الآخرين أو يحدّ منها، كلّما تجسّدت بنجاح صورة المدير القائد، والقائد المدير. وهذا ما نحن بحاجة ماسّة إليه في ظلّ سيادة الشخصانية الفردية، وعدم احترام المؤسسية والعمل الجماعي، وسيادة روح الانضباط الجامد على حساب الفعل المؤثر والإبداع في العمل، والتحسين المستمر في جميع المجالات. وذلك يعني ضرورة الاختيار الدقيق للمدراء بمختلف مراتبهم بعيداً عن المحسوبيات والهوى، وبناء على الكفاءة والخبرة والمقدرة في المقام الأول. فكم من مدير لا يتمتع بالصفات القيادية أورث العمل اخفاقات تصعب معالجتها، وكم من قائد لا يتمتع بالمهارات الذهنية والإنسانية والفنية اللازمة، تبوّأ موقعه في غفلة من الزمان، فكان عمله وبالاّ على مؤسسته، ناهيك إذا كان قائداً لشعب ووطن! جاء في القول المأثور: "التعلّم يجعل الناس أسهل قياداً ، لكنه يجعل من المستحيل سوقهم. من السهل حكمهم، ولكن من المستحيل استعبادهم"، وشتـّان ما بين القيادة والسّـوق، فأنت "تستطيع أن تسوق الحصان إلى نبع الماء، لكنّك لا تستطيع إجباره على الشرب"!